فجر الحرف الأول

                                                        العلم صيد والكتابة قيده              قيد صُيُودك بالحبال الموثقة

اختزلت أبيات الشافعي هذه أهمية الكتابة على مر العصور وفي مختلف الحضارات القديمة، فمن خلال الكتابة وصلتنا أخبار السالفين ونُقلت إلينا علومهم، وطقوسهم، ومعتقداتهم، ومعاركهم، وحتى أساطيرهم.

لكن هل تساءلت يوما كيف كان الناس يدونون ويوثقون تعاملاتهم اليومية؟!

وكيف كانت شكل كتاباتهم؟!

وكيف تحولت الكتابة من رموز صورية إلى رموز حرفية؟!

سنحاول في هذا المقال العودة بعجلة الزمن إلى الوراء، إلى الماضي البعيد، وتحديدا إلى بلاد الرافدين، مهد الكتابة وأم الحضارات، سنتعرف بشكل خاص على أقدم الكتابات وهي الكتابة المسمارية.

تعريف الكتابة المسمارية

هي أقدم أشكال الكتابة المعروفة في العالم، وظهرت في بلاد النهرين منذ ٣٠٠٠عام ق. م.

وقد سميت بالكتابة المسمارية؛ لأن طريقة كتابتها تشبه المسمار إلى حد ما، وهي تسمية حديثة استخدمها الباحثون منذ القرن ١٨م، والاسم مشتق من كلمة( cuneus) وهي كلمة لاتينية الأصل معناها المسمار أو الإسفين، وقد استخدمت لكتابة عدة لغات منها السومرية والأكدية واستمر استخدامها نحو ٣٠٠٠عام، ويتراوح عدد حروفها من ٢٠٠٠ رمز إلى أن وصل إلى ٦٠٠ رمز مع تطورها.

طريقتها واستخداماتها

 

يعتبر الطين المادة الأساسية التي تصنع منها ألواح الكتابة المسمارية، أما أداة النقش فهي مصنوعة من القصب، ولها رؤوس بزوايا مختلفة، يتم تخطيط اللوح الطيني إما بشكل عمودي وينقش ويقرأ من الأعلى إلى الأسفل، أو بشكل أفقي وينقش ويقرأ من اليسار إلى اليمين. ويتم تجفيف لوح الطين بتعريضه للشمس.

 

شكل تقريبي لأداة الكتابة

وقد استخدمت الكتابة المسمارية لأغراض اقتصادية كتدوين التعاملات التجارية اليومية لفرز ما يتم بيعه وشراءه وتحفظ الألواح (السجلات) لدى الكهنة ونسخة ثانية لدى التاجر، كما تم استخدامها في المدارس لتعليم التلاميذ، وقد احتوت الألواح المكتشفة على أسرار غنية لحضارة عريقة وهي حضارة العراق القديم، ومن هذه الأسرار تاريخ نهوض وسقوط الإمبراطوريات الأولى في العالم، واستخدمت لكتابة القوانين، والتعاليم الدينية، ولتنظيم الحياة اليومية، ومن خلال الكتابة وصلت إلينا أسرار الحضارات القديمة، ولولاها لبقيت الأثار عبارة عن هياكل مبهمة تحتاج لفك رموزها واكتشاف غموضها.

 

 

الأرقام في الكتابة المسمارية البابلية

أما الأرقام فقد كانت عبارة عن رموز مركبة، وقد اعتمد النظام الموضعي الستيني، ويبدأ النظام بالرقم واحد وينتهي بالرقم تسعة وخمسون، حيث لم يكن الصفر موجود آنذاك، أما الرقم ستون فهو رقم مركب ومعقد للغاية، يحتوي على اثنتي عشر عاملا، ولا يزال هذا النظام مستخدما في وقتنا الحاضر لحساب الوقت والساعات وفي علم الفلك.

فك رموز الكتابة المسمارية

يعتبر فك رموز الكتابة المسمارية أحد أعظم الإنجازات العلمية في العصر الحديث، حيث ساهم ذلك في فهم الحضارات العراقية القديمة وأزاح الغموض عنها، وقد تم الإعلان عن فك الرموز المسمارية في عام ١٨٥٧م بعد محاولات كثيرة لعدة أشخاص حتى تمكن أخيرا العالم الألماني “گروتفند”  من فك تلك الرموز من خلال طرحه الأسئلة والفرضيات التي  حاول الإجابة عنها ونجح في ذلك.

تطور الكتابة المسمارية

قبل أن تصبح الكتابة المسمارية رموزا؛ كان يتم استخدام قطع طينية صغيرة الحجم ذات أشكال مختلفة، ويطبع على وجهها الخارجي ختم بأشكال هندسية وخطوط للدلالة على شيء ما، ويتم حفظ هذه القطع الصغيرة داخل كرة طينية مجوفة يبلغ قطرها ٥-٧سم، ثم تطور الأمر وبدأ العراقيون القدامى بطبع هذه الأختام على ألواح طينية، ومن هنا بدأت الكتابة المسمارية، وسنذكر مراحل تطورها:

 

١-المرحلة الصورية: تعتبر النقوش الصورية أولى مراحل الكتابة، حيث يتم طباعة شكل تقريبي للأشياء المادية كالطائر، أو السمكة، أو ثمرة ما، وقد كان يطلق على هذه الألواح اسم رقيم الطين وجمعها رُقم، وعُرِفت أيضا برُقم ما قبل المسمارية، وفي مطلع القرن العشرين تم اكتشاف أكثر من خمسة ألاف رقيم طيني في مدينة أوروك (الوركاء) جنوب بلاد الرافدين، أما مضمون هذه الرُقم فقد كان ٨٥٪ منها اقتصادي أما الباقي فمضامينها لغوية ومدرسية.

٢-المرحلة الرمزية: ولكون العلامات الصورية غير كافية لمعرفة المراد منها إيصاله بوضوح، ولأنها لا تفصح عن اللغة التي كُتبت بها؛ لذلك تم ابتكار الطريقة الرمزية، وبذلك توسع معنى الرمز فبدلا من أن يعبر عن شيء بعينه أصبح يعبر عن كل ما يتعلق بذلك الشيء من صفات وأفعال، فمثلا لم يعد رمز القدم يعبر عنها فحسب بل عن الوقوف والمشي وغير ذلك مما له علاقة بالرمز.

 

٣- المرحلة الصوتية: وتمثل آخر مراحل تطور اللغة وأكثرها تعقيدا، فلم تكن الرموز الصورية تعبر عن الكلام المحكي _أي اللغة_ تعبيرا دقيقا ولا تساعد على كتابة الأسماء، فكانت الحاجة لابتداع طريقة أكثر تطورا للكتابة، ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا يمكن تحديد وقت بدء استخدام هذه الطريقة، وكانت هذه الطريقة ملائمة جدا لكتابة اللغة السومرية لكن وجد الكتبة صعوبة عند استخدامها لكتابة اللغة الأكدية وذلك لاحتوائها على أصوات صامتة وحلقية ومفخمة وحركات، غير أنهم توصلوا لطرق تساعدهم في كتابة اللغة الأكدية لا مجال لحصرها هنا لكن سنذكر منها إضافة مقاطع صوتية للرموز.

 

وفي الختام إن مفتاح الولوج لأي حضارة هو بمعرفة لغتها وكتابتها، وذلك ليسهل علينا فهم تلك الحضارات العريقة التي نشأ منها العلم والابتكار، فها هم المصريون القدامى ينقلون لنا علومهم، واخبارهم، وطريقة تحنيطهم الموتى، ومعاملاتهم التجارية وطقوسهم الدينية، وأخبار الملوك والكهنة من خلال الخط الهيروغريفي، وهذه حضارة العراق بلاد ما بين النهرين تنقل لنا أخبار الشعوب التي سكنت تلك المنطقة مثل السومرية والأكدية والأشورية والسريانية، من خلال الكتابة المسمارية التي انتشرت خارج العراق، وكان لتطور حياة المدينة واتساع رقعة التجارة والبناء والحاجة للتعليم دورا بارزا لابتكار أساليب الكتابة وتطويرها، ومن هنا ندرك إن بقاء الأمم يعتمد على بقاء لغتها، وازدهارها ونهضتها مكفول بالعناية بتلك اللغة، وأفضل ما أختم به هذا المقال، ما تم ترجمته من الألواح المسمارية عن أهمية الكتابة:

  • الكتابة أم الخطباء وأبو العلماء
  • اعمل دون توقف في الكتابة؛ وستكشف لك عن الأسرار
  • إذا أهملت الكتابة سيشار إليك بالسخرية
  • الكتابة فن بهيج لا تشبع منه النفس

 

 

المرجع: كتاب اللغة السومرية للمؤلف عامر سليمان

أ. حنان عصام العواجه

(الفائزة بالمركز الثاني في مسابقة ملتقى الحضارات)